ساحاتنا اختفت... كيف تُعيد المدن العربية مساحاتها العامة؟

وفق تقرير للأمم المتحدة (2022)، فإن أقل من 25% من المساحة العمرانية في المدن العربية مخصصة للمجال العام، مقارنة بـ 45% في بعض المدن الأوروبية.

Construct Vision Team

5/18/20251 دقيقة قراءة

في أدبيات التخطيط الحضري، تُعتبر الساحات العامة "النسيج الحي" الذي يربط بين البنية العمرانية والبعد الاجتماعي للمدينة. فهي ليست فراغات بين المباني، بل فضاءات منتجة للهوية، للحوار، وللتفاعل المدني.

في المدن العربية التقليدية، كانت الساحة تُشكّل امتداداً عضوياً للسوق، للمسجد، للحمّام، بل وحتى للمنزل… مساحة مشتركة تشهد على نبض الحياة اليومية.

ومع التحولات السريعة في أنماط التخطيط العمراني، خصوصاً بعد منتصف القرن العشرين، غابت الساحات تدريجياً من المدن العربية الحديثة. حلت محلها الفراغات المحايدة أو المغلقة التي تفتقر إلى الوظيفة الاجتماعية والمعمارية التي كانت تؤديها تلك الساحات. مراكز تجارية مغلقة وشوارع مكتظة بالسيارات، مساحات إما غير فعالة اجتماعيًا، أو تجارية تفرض شروطًا على استخدامها.

اليوم، تبرز تساؤلات جوهرية في ميدان العمارة والتخطيط الحضري:

-لماذا تراجعت الساحة العامة في المدينة العربية؟

-وهل يمكن استعادة دورها دون الوقوع في فخ "استنساخ الفراغات"؟

-ما هي الأدوات التصميمية والسياسات الحضرية التي يمكن أن تعيدها كعنصر فاعل في تشكيل المدينة الإنسانية؟

وفق تقرير للأمم المتحدة (2022)، فإن أقل من 25% من المساحة العمرانية في المدن العربية مخصصة للمجال العام، مقارنة بـ 45% في بعض المدن الأوروبية.

لكن، هل يمكن استعادة الساحات؟ وهل يمكن أن تعود لتكون القلب النابض للمدن كما كانت في السابق؟

هذا المقال يحاول تفكيك هذه الإشكالات من خلال تتبّع تاريخي للساحات، وتحليل للواقع الحالي، واستعراض لأمثلة ناجحة في إعادة تفعيل المساحات العامة.

من ساحات نابضة إلى فراغات منسية: أين اختفت ساحاتنا؟

في المدن العربية القديمة – من فاس إلى حلب ومن بغداد إلى تونس – لم تكن الساحات مجرد امتداد للمباني، بل مركزًا ديناميكيًا للتفاعل الاجتماعي والديني والاقتصادي. كانت تقام فيها الأسواق الموسمية، والاحتفالات العامة، ومجالس الصلح، بل وحتى القرارات السياسية. وقد صُممت بعناية، تُراعي المناخ والظل والتوجيه، وتُفعّل حركة المشاة وتوزيع الأنشطة حولها.

في فاس القديمة، تشير دراسات تخطيطية إلى أن نحو 18% من المساحة الكلية كانت ساحات مفتوحة أو نقاط التقاء، مقارنة بـ أقل من 5% في توسعات المدينة الحديثة. حيث أن الأزقة الضيقة تلتقي في ساحات صغيرة تُستخدم للراحة واللقاء والتجارة. وكذلك في مراكش، ساحة جامع الفنا لا تزال حتى اليوم رمزًا للوظيفة الاجتماعية والثقافية للمجال العام.

لكن بدءًا من النصف الثاني من القرن العشرين، ومع موجات التحديث المستوردة، طُبقت نماذج تخطيطية غربية لا تتلاءم مع السياق المحلي. تمحورت المدن حول السيارة لا الإنسان، وانكمشت الساحات لصالح مواقف السيارات، وتضخمت المباني على حساب الفضاءات المشتركة.

وكانت النتيجة أن تراجعت جودة الحياة الحضرية، وغابت أماكن اللقاء التلقائي والمناسبات الاجتماعية.

ففي كثير من المدن الخليجية، تم استبدال "الساحات" بمواقف سيارات ضخمة أمام المولات. ووفقاً لتقرير البنك الدولي (2021) فإن متوسط المساحات العامة الصالحة للمشي للفرد في مدن الخليج لا يتجاوز 1.2 م²/فرد مقارنة بـ 9.5 م²/فرد في كوبنهاغن.

هذه التحولات لم تؤثر فقط على شكل المدينة، بل على جودة الحياة، وعلى الإحساس بالانتماء، وعلى ثقافة "اللقاء العفوي" التي ميزت المجتمعات العربية.

كيف استعادت بعض المدن نبض ساحاتها؟ تجارب ملهمة من العالم العربي:

رغم التراجع الكبير في مكانة الساحة العامة في التخطيط العربي الحديث، ظهرت مبادرات لافتة في السنوات الأخيرة لإحياء هذه الفضاءات، لكن بشروط جديدة تراعي الإنسان، وتعيد توظيف الفضاء العام بشكل مستدام ومعاصر.

جدة التاريخية – السعودية

مشروع ترميم "جدة البلد" لم يقتصر على المباني، بل أُعيد التفكير في الساحات كمفاصل حضرية. أعيد تصميم الفراغات لتكون منصات للثقافة والفن، مع مراعاة عناصر مناخية مثل التظليل، وتوزيع الجلوس، والربط البصري بين الفراغ والمباني المحيطة.

ساحة القصبة – تونس العاصمة

تحوّلت من عقدة مرور فوضوية إلى مساحة مشاة نابضة بالحياة عبر إعادة تأهيل الأرضيات، وإدخال عناصر مياه، وتخصيص مساحة للأنشطة الثقافية، مما أحيا الدور التاريخي للساحة كمكان للقاء.

مشيرب – الدوحة

في قلب المدينة، أعيد ابتكار فكرة الساحة من منظور حديث، بحيث تدمج التصميم البيوفيلي، والتظليل الطبيعي، وتعدد المستويات. المساحات هنا ليست فقط جميلة، بل مدروسة لتفعيل الأنشطة اليومية، وربط الجمهور بالهوية المحلية.

كل هذه الأمثلة تشير إلى تحوّل مهم: من "الساحة كعنصرعمراني مغفل الأهمية" إلى "الساحة كأداة استراتيجية للتماسك المجتمعي".

Share the post

Subscribe to our newsletters

التكنولوجيا والتصميم التشاركي: مفاتيح مستقبل الساحة العامة

في المدن الذكية القادمة، لن تكون الساحات مجرد نتاج لتخطيط مركزي تقليدي، بل ستُبنى بتقاطع ثلاثة محاور: البيانات، والناس، والاستدامة.

التصميم المدفوع بالبيانات

باستخدام تقنيات تحليل الحركة البشرية (Human Flow Analytics)، يمكن للمهندسين فهم كيفية تنقّل الناس وتجمّعهم في الفضاءات العامة. هذه البيانات تتيح تصميم ساحات "تتفاعل" مع الناس، فتزدهر في أوقات الذروة وتخبو بهدوء عند الحاجة.

التصميم التشاركي

نموذج "المخطّط ليس وحده من يقرر" بات قاعدة جديدة. من خلال ورش العمل الرقمية، ومنصات الواقع الافتراضي، أصبح بإمكان المستخدمين العاديين "تجريب" الساحة قبل بنائها، وإبداء آرائهم في المظلات، أماكن الجلوس، وحتى طبيعة النشاطات.

تقنيات ذكية

-مقاعد قابلة للتدوير تلقائيًا بحسب الشمس.

-أرضيات ذكية تولّد الطاقة من حركة الأقدام.

-شاشات توجيه بيئية، وتطبيقات تفاعلية توضّح النشاطات في الساحة.

الساحة كمُستشعر حضري

لم تعد الساحة العامة مكانًا ساكنًا. بل تتحوّل اليوم إلى مرآة رقمية للمدينة، تنقل نبض الحياة، وتقترح تعديلات في تصميمها عبر الذكاء الاصطناعي، وفق احتياجات السكان.

خاتمة:

تتداخل اليوم التقنية مع كل تفاصيل حياتنا، لم تعد الساحات العامة تُبنى فقط من الخرسانة والحجر، بل من البيانات والأفكار والتجارب المشتركة، فهي ليست فراغات فقط، بل أدوات حضارية.

كل 1 م² من المساحة العامة الجيدة يُمكن أن يُقلل الشعور بالعزلة بنسبة 8-10%، بحسب دراسة جامعة MIT

فكر معنا:

إذا كانت الساحات المستقبلية قادرة على التكيّف مع احتياجاتنا، فهل نحن مستعدون للتفاعل معها كمستخدمين ومصممين؟
وما دورك – كمعماري أو صانع قرار – في بناء ساحات تُشبه الناس الذين يعيشون فيها؟

شاركنا رؤيتك... كيف تتصور ساحة مدينتك في 2035؟