حين تتكلم الجدران: هل يمكن للمباني أن تحذرنا من الزلازل؟

لقد أصبح من الضروري تطوير مبانٍ قادرة على التفاعل مع محيطها وتحذير سكانها من الأخطار المحتملة. فهل يمكن أن تتكلم الجدران والأعمدة وتحذرنا من الزلازل قبل وقوعها؟

Construct Vision Team

5/6/20251 دقيقة قراءة

في زمن تتسارع فيه الكوارث الطبيعية وتتغير فيه أنماط الحياة، لم تعد المباني مجرد مأوى صامت، بل هناك من يسعى لتحويلها إلى كيانات ذكية، قادرة على "الشعور" وحتى "التحدث"... بل وربما إنقاذ الأرواح.

لقد أصبح من الضروري تطوير مبانٍ قادرة على التفاعل مع محيطها وتحذير سكانها من الأخطار المحتملة. فهل يمكن أن تتكلم الجدران والأعمدة وتحذرنا من الزلازل قبل وقوعها؟

أولاً: المواد الذكية – الجدران التي تشعر بنا

يبدو الأمر أقرب إلى الخيال، لكن العلم بدأ فعلاً في إدخال "الحواس" إلى الجدران والأعمدة. كيف؟ عبر ما يُعرف بـ المواد الذكية – وهي مواد تغيّر خصائصها الفيزيائية عند تعرضها لمؤثر خارجي، مثل الضغط أو الاهتزاز أو حتى التغيرات في الرطوبة والحرارة.

في الأبحاث الحديثة، تُستخدم هذه المواد لمراقبة الحالة الصحية للمنشآت، تمامًا كما يستخدم الطبيب أجهزة لمراقبة الجسم البشري.

المواد الذكية تستجيب للمؤثرات الخارجية مثل الضغط، الحرارة، أو الرطوبة، وتغير خصائصها وفقًا لذلك. تُستخدم هذه المواد لمراقبة صحة الهيكل والتفاعل مع التغيرات البيئية.

مثال ذلك: الطوب الذكي (Smart Bricks)

تم تطوير طوب يحتوي على مستشعرات مقاومة للضغط (piezoresistive) يمكنها قياس التشوه والإجهاد داخل جدران البناء المصنوعة من الطوب. يمكن لهذه المستشعرات إرسال بيانات كهربائية مرتبطة بالتغيرات في الإجهاد، مما يسمح بمراقبة سلامة الهيكل واكتشاف الأضرار الناجمة عن الزلازل أو الأحمال الزائدة.

ثانياً: الخرسانة الذكية – الحاسة السادسة للمباني

الخرسانة الذكية ذاتية الاستشعار (Self-Sensing Concrete) يتم دمج مواد موصلة مثل ألياف الكربون، أو أنابيب الكربون النانوية، أو جزيئات معدنية في الخلطة الخرسانية. تجعلها قادرة على استشعار التغيرات في الإجهاد أو حدوث تشققات.
وفق دراسة منشورة في Construction and Building Materials (2024) ، أظهرت هذه الخرسانة قدرة فائقة على إرسال إشارات كهربائية تعكس حالتها الداخلية بدقة.

تتغير الخواص الكهربائية لهذه الخرسانة عند تعرضها للإجهاد أو التشقق. ومن خلال مراقبة هذه التغيرات في المقاومة الكهربائية، يمكن اكتشاف الضغط، والإجهاد، وتطور الشقوق في الهيكل بشكل مبكر. يجري البحث لاستخدام هذه التقنية في أنظمة الإنذار المبكر للزلازل من خلال الكشف عن الاهتزازات والتغيرات في الإجهاد.

تخيّل مبنى يعرف أنه بدأ يتشقق، فيرسل إشعارًا للمهندس المسؤول قبل أن يرى أحد حتى شعرة في الجدار!

تُستخدم أيضاً هذه التقنية لمراقبة صحة المبنى واكتشاف الأضرار قبل تفاقمها.

يتم تضمين أجهزة استشعار مختلفة مباشرة في مواد البناء أثناء التصنيع أو أثناء الإنشاء:

-مستشعرات الإجهاد (Strain Sensors): تقيس التشوه والإجهاد في المواد مثل الخرسانة والصلب والخشب، مما يساعد في تقييم سلامة الهيكل واكتشاف التلف المحتمل.

-مستشعرات الاهتزاز (Vibration Sensors/Accelerometers): تراقب اهتزازات المبنى الناتجة عن الزلازل أو الأحداث الأخرى، مما يوفر بيانات قيمة لتقييم الأضرار الهيكلية.

-مستشعرات الميل (Tiltmeters): تكتشف التغيرات في زاوية ميل الهيكل، مما قد يشير إلى حركة أو تسوية غير طبيعية.

-مستشعرات الرطوبة ودرجة الحرارة: يمكن أن تساعد في الكشف عن مشاكل مثل تراكم الرطوبة أو النمو العفن، والتي يمكن أن تؤثر على سلامة المواد.

ثالثاً: المواد الكهروضغطية – تحويل الضغط إلى إشارات كهربائية

المواد الكهروضغطية (Piezoelectric Materials) هي تقنية مذهلة أخرى. هذه المواد تولد شحنة كهربائية عند تعرضها للضغط، مثل الضغط الناتج عن اهتزازات زلزالية. مما يسمح لها بتحويل الاهتزازات الناتجة عن الزلازل إلى إشارات يمكن تحليلها للتنبؤ بالخطر.

دراسة منشورة في Sensors and Actuators بيّنت أن هذه المواد يمكن دمجها داخل الجدران لتتحول إلى "مستشعرات زلزالية" دقيقة، وربطها بأنظمة إنذار متقدمة.

"نحن لا نتحدث عن مقاومة الزلازل فقط... بل عن التنبؤ بها!" / د. كازو أوكازاكي، جامعة طوكيو للتقنيات الذكية في المباني.

المواد الكهروضغطية (Piezoelectric Materials) هي مواد صلبة معينة - مثل بعض أنواع البلورات، والسيراميك، التي تولد شحنة كهربائية استجابةً للضغط الميكانيكي المطبق عليها. هذه الظاهرة تسمى التأثير الكهروضغطي (Piezoelectric Effect).

عندما تتعرض مادة كهروضغطية لضغط ميكانيكي، يحدث إزاحة في مراكز الشحنات الموجبة والسالبة داخل المادة. يؤدي هذه الإزاحة إلى ظهور مجال كهربائي خارجي. وعلى العكس من ذلك، عند تطبيق مجال كهربائي خارجي على مادة كهروضغطية، فإنها تتمدد أو تنكمش بشكل طفيف.

يمكن تصنيف المواد الكهروضغطية إلى:

-بلورات طبيعية: مثل الكوارتز، والتورمالين، وملح روشيل، والسكر القصب.

-سيراميك: مثل تيتانات الباريوم (Barium Titanate) وزركونات تيتانات الرصاص (Lead Zirconate Titanate - PZT)، وهي الأكثر استخدامًا نظرًا لخصائصها الكهروضغطية العالية.

-بوليمرات: مثل فلوريد البولي فينيليدين (Polyvinylidene Fluoride - PVDF)، والتي تتميز بمرونة عالية وحساسية جهد عالية.

-مواد أخرى: مثل أشباه الموصلات من النوعين الثالث والخامس والسادس والثاني وأكسيد الزنك.

رابعاً: الخرسانة ذاتية الشفاء – علاج ذاتي للتشققات

ربما لا "تتكلم" الخرسانة، لكنها قد "تعالج نفسها"!

الخرسانة ذاتية الشفاء (Self-Healing Concrete) تحتوي على كبسولات دقيقة تطلق مواد عند حدوث تشققات، هذه المواد تملأ الفراغ وتعيد للسطح تماسكه. مما يؤدي إلى التئامها تلقائيًا. مما يقلل من الحاجة إلى الصيانة وتطيل عمر المباني.

دراسة منشورة في Journal of Building Engineering (2023) تشير إلى تقليل كبير في كلف الصيانة وزيادة عمر المباني لأكثر من 50%.

شاهد فيديو الخرسانة ذاتية الشفاء.

ملاحظة: دروس من الماضي – الخرسانة الرومانية

الخرسانة الرومانية القديمة تُظهر خصائص ذاتية الشفاء بفضل استخدام مواد مثل الجير والرماد البركاني. عند تعرضها للماء، تتفاعل هذه المواد لملء التشققات تلقائيًا، مما يفسر بقاء بعض الهياكل الرومانية قائمة حتى اليوم.

تشير الأبحاث الحديثة، خاصة تلك التي أجراها فريق من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة هارفارد، إلى أن السر يكمن في وجود حبيبات صغيرة من الجير الحي (lime clasts) في الخرسانة الرومانية، والتي كانت تعتبر في السابق ناتجة عن سوء الخلط.

عندما تتشكل شقوق صغيرة في الخرسانة الرومانية وتتسرب إليها المياه، يحدث ما يلي:

  1. تفاعل الجير الحي مع الماء: تتفاعل حبيبات الجير الحي (أكسيد الكالسيوم - CaO) مع الماء (H₂O) لتكوين هيدروكسيد الكالسيوم (Ca(OH)₂)، وهو محلول مشبع بالكالسيوم.

  2. ترسب كربونات الكالسيوم: يمكن لهذا المحلول المشبع بالكالسيوم أن يترسب على شكل كربونات الكالسيوم (CaCO₃) داخل الشقوق، مما يؤدي إلى ملئها وإغلاقها تلقائيًا. هذه العملية تشبه الطريقة التي تتكون بها الكهوف الجيرية.

  3. تفاعل مع الرماد البركاني (البوزولانا): بالإضافة إلى ذلك، يتفاعل هيدروكسيد الكالسيوم مع الرماد البركاني (البوزولانا)، وهي مادة غنية بالسيليكا والألومينا النشطة. هذا التفاعل البوزولاني ينتج مركبات سيليكات وألومينات الكالسيوم المائية، والتي تساهم في زيادة قوة ومتانة الخرسانة بمرور الوقت وتساعد في سد الشقوق.

لماذا كانت هذه العملية فعالة في الخرسانة الرومانية؟

-استخدام الجير الحي "الخلط الساخن": تشير الأبحاث إلى أن الرومان استخدموا الجير الحي بشكل مباشر في خلط الخرسانة "الخلط الساخن" بدلاً من الجير المطفأ (هيدروكسيد الكالسيوم) المستخدم غالبًا في الخرسانة الحديثة. هذا "الخلط الساخن" أنتج حبيبات الجير الحي الصغيرة التي تلعب دورًا حاسمًا في آلية الشفاء الذاتي.

-التركيبة الفريدة: مزيج الجير الحي والرماد البركاني والركام والمياه البحرية (في بعض الهياكل البحرية الرومانية) أدى إلى تفاعلات كيميائية فريدة ساهمت في المتانة والقدرة على الشفاء الذاتي.

خامساً: رؤية للمستقبل

مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، قد تصبح هذه المواد مرتبطة بشبكات رقمية تحلل البيانات، وتصدر تحذيرات آنية.
وفي المستقبل القريب، قد تستيقظ على إشعار من منزلك يقول:

"تم رصد نشاط اهتزازي غير معتاد. ننصح بإخلاء المبنى خلال 30 ثانية."

سادساً: رؤية للمستقبل

استخدام المواد الذكية في البناء يمثل خطوة نحو مستقبل أكثر أمانًا واستدامة. ومن المتوقع أن تلعب هذه المواد والتقنيات الذكية دورًا متزايد الأهمية في بناء مدن أكثر أمانًا ومرونة في مواجهة الكوارث الطبيعية والمشاكل الهيكلية.

لم نعد بحاجة إلى خيال علمي لنتصور مباني "تتكلم"؛ العلم يصنعها الآن، مادةً بعد أخرى. الجدران قد لا تملك صوتًا... لكنها صارت تملك إحساسًا، وقد تنقذ أرواحًا قبل أن يحدث ما لا يُحمد عقباه.

وهناك بالفعل تجارب فعلية نُفذت على هذا النوع من المواد الذكية، وبعضها بدأ يدخل مرحلة الاستثمار أو التطبيق التجاري، وإن كان لا يزال في مراحل مبكرة نسبياً:

1- اليوم هناك العديد من الدراسات والمشاريع البحثية حول العالم التي تختبر استخدام الخرسانة ذاتية الاستشعار لمراقبة صحة الهياكل. وقد تم دمج هذه الخرسانة في عناصر إنشائية حقيقية مثل الجسور والأبنية لاختبار قدرتها على اكتشاف الإجهاد والتشقق تحت ظروف التشغيل الفعلية. وهناك بعض الشركات بدأت في تسويق حلول تعتمد على الخرسانة ذاتية الاستشعار لأنظمة مراقبة الهياكل. على سبيل المثال، تُستخدم هذه التقنية في بعض المشاريع لمراقبة سلامة الجسور والأنفاق بشكل مستمر، مما يتيح التدخل المبكر في حال ظهور أي مشاكل.

2- تم تنفيذ مشاريع تجريبية تضمنت دمج أجهزة استشعار في مواد بناء مثل الخرسانة والصلب لمراقبة الإجهاد والاهتزازات. هذه المشاريع تهدف إلى تقييم فعالية هذه الأنظمة في توفير بيانات في الوقت الفعلي حول سلامة الهيكل. وبدأت بعض الشركات بالفعل بتقديم حلول تجارية لأنظمة مراقبة الهياكل التي تعتمد على أجهزة استشعار لاسلكية مدمجة في مواد البناء أو مثبتة عليها. هذه الأنظمة تُستخدم بشكل خاص في الهياكل الكبيرة مثل الجسور وناطحات السحاب لتوفير إنذار مبكر في حالة حدوث أي تلف أو إجهاد غير طبيعي.

3- هناك أبحاث نشطة لاستخدام "الطوب الذكي" الذي يحتوي على مستشعرات لمراقبة سلامة جدران البناء. على سبيل المثال، تم تطوير طوب قادر على قياس الضغط والتشوه داخل الجدار. وبعض الجامعات والمؤسسات البحثية قامت ببناء نماذج أولية لهياكل تستخدم هذا النوع من الطوب الذكي لاختبار قدرته على توفير بيانات حول سلامة البناء أثناء الاختبارات الزلزالية أو تحت تأثير أحمال مختلفة. لم يصل هذا النوع من التطبيقات بعد إلى مرحلة الاستثمار التجاري الواسع النطاق، ولكنه يمثل مجالًا واعدًا.

4- في مجال المواد ذاتية الإصلاح فعلى الرغم من أن الاستخدام الواسع للمواد ذاتية الإصلاح لا يزال قيد التطوير، إلا أن هناك بعض التطبيقات المحدودة التي بدأت تظهر في السوق، خاصة في مجال إصلاح الخرسانة على نطاق صغير. وهناك استثمارات كبيرة في البحث والتطوير لتعزيز قدرات المواد ذاتية الإصلاح وتوسيع نطاق تطبيقاتها في البناء.

التحديات المستمرة:

وعلى الرغم من التقدم الملحوظ، لا تزال هناك تحديات تواجه الاستثمار والتطبيق الواسع النطاق لهذه المواد الذكية، بما في ذلك:

- التكلفة: غالبًا ما تكون هذه المواد والتقنيات أكثر تكلفة من مواد البناء التقليدية.

- المتانة والموثوقية: ضمان قدرة أجهزة الاستشعار والمواد الذكية على العمل بشكل موثوق على المدى الطويل داخل بيئات البناء القاسية.

- تكامل الأنظمة: تطوير أنظمة فعالة لجمع البيانات وتحليلها وتوفير تنبيهات ذات مغزى وسهلة الفهم للمستخدمين.

- المعايير واللوائح: وضع معايير ولوائح تنظيمية لتحديد وتقييم أداء هذه المواد الذكية.

لا يزال التطبيق الواسع النطاق لهذه التقنيات في مراحل مبكرة، ويتطلب المزيد من البحث والتطوير والتغلب على التحديات المتعلقة بالتكلفة والموثوقية وتكامل الأنظمة. المستقبل يحمل الكثير من الوعود لهذه المواد الذكية في جعل مبانينا أكثر أمانًا وذكاءً.

Subscribe to our newsletters