
عندما تلتقي العمارة بروحانية رمضان: بين أصالة التراث واستدامة المستقبل
كيف تلتقي أجواء رمضان مع العمارة الحضرية، وكيف يمكن دمج التكنولوجيا، التراث، والاستدامة لإنشاء بيئات تتناغم مع الأبعاد الرمضانية كما فعلت البيئات التقليدية، وتحافظ على هويتها وتتكيف مع التغيرات الحديثة
Construct Vision Team
2/25/20251 دقيقة قراءة

مقدمة:
مع حلول شهر رمضان، تتغير إيقاعات المدن، وتتحول الفضاءات العامة إلى مراكز نابضة بالحياة، حيث تمتزج الروحانية بالاجتماعيات. الأسواق تعج بالمتسوقين، المساجد تمتلئ بالمصلين، والمنازل تحتضن موائد عامرة تجمع الأهل والأصدقاء.
لكن، في ظل التحولات المعمارية والتكنولوجية، كيف يمكن للعمارة أن تحافظ على روحانية رمضان دون أن تفقد هويتها أمام تطورات العصر؟ وهل يمكن أن تكون الاستدامة العمرانية جسراً بين أصالة التراث ومتطلبات المستقبل؟
في هذا المقال، سنستكشف كيف تلتقي أجواء رمضان مع العمارة الحضرية، وكيف يمكن دمج التكنولوجيا، التراث، والاستدامة لإنشاء بيئات تتناغم مع الأبعاد الرمضانية كما فعلت البيئات التقليدية، وتحافظ على هويتها وتتكيف مع التغيرات الحديثة. سنلقي نظرة على الأسواق، المساجد، المنازل، والفراغات العامة، وندرس كيف يمكن تصميمها لتكون أكثر كفاءة، استدامة، وانسجامًا مع المواسم الخاصة، كما سنستعرض بعض التجارب في تجسيد هذا المفهوم.
فهل يمكن أن تكون العمارة الحديثة امتدادًا للعمارة التقليدية بروح أكثر حداثة واستدامة؟
تأثير التكنولوجيا على الفضاءات في المواسم:
1- الأسواق والمراكز التجارية في عصر الرقمنة
في الماضي، كانت الأسواق التقليدية تشكل القلب الاقتصادي للمدن الإسلامية، وخاصة في رمضان، حيث يزداد الإقبال على المواد الغذائية، الملابس، والمنتجات الرمضانية. ومع انتشار التطبيقات الذكية وخدمات التوصيل، باتت الحاجة للأسواق الفيزيائية تتغير تدريجيًا. لكن هل استطاعت العمارة الحديثة توفير بيئة اجتماعية خلال الشهر الكريم ؟
الأسواق التقليدية تمتعت بتصميم يسمح بالتفاعل الاجتماعي وتضمن توفر الأمان أثناء ممارسة الأنشطة المختلفة لكل أفراد المجتمع، حيث الأزقة الضيقة تجعل البضائع بمتناول الجميع وتوفرالراحة الحرارية، والمساحات المفتوحة تستوعب الازدحام والحركة الدائمة.
المولات الحديثة رغم أنها توفر تجربة تسوق متكاملة، إلا أن تصميمها المغلق قد يقلل من عنصر التفاعل الاجتماعي الذي ميز الأسواق التقليدية، وتحصر استخدام السوق ضمن فئة محددة من المجتمع.
وهنا يبرز تحدي التوازن فكيف يمكن للمعماريين المعاصرين تصميم أسواق تجمع بين الطابع التكنولوجي والتفاعل الاجتماعي، دون فقدان روح السوق الرمضاني؟
2- المساجد الذكية بين الروحانية والتكنولوجيا
تشهد المساجد في رمضان إقبالًا كثيفًا، مما يستدعي التفكير في تصاميم معمارية ذكية تساعد في استيعاب الأعداد الكبيرة وتقليل استهلاك الموارد، ومن الحلول التي ظهرت:
-استخدام أنظمة الإضاءة والتكييف الذكية التي تتكيف مع عدد المصلين لتوفير الطاقة لجعل المساجد أكثر كفاءة خلال الازدحام في رمضان. تعتمد على التحكم الذاتي وتوجيه الهواء بكفاءة.
-الشاشات الرقمية، البث المباشر، والتطبيقات التي توفر جداول الصلاة والتراويح، وتقلل الحاجة إلى المطبوعات الورقية.. وتأثيرها على دور المسجد كمركز مجتمعي.
-توفير خدمات اجتماعية واقتصادية في المساجد وأماكن للترفيه ورعاية الأطفال تجمع احتياجات رواد المساجد في نفس المكان.
لكن يبقى السؤال: هل تؤثر هذه التكنولوجيا على البعد الروحاني والتعبدي للمسجد، أم أنها تعزز تجربة المصلين وتجعلها أكثر راحة واستدامة؟
3- المنازل الذكية وأثرها على العادات الرمضانية
لقد غيرت الأجهزة الذكية والمنازل المؤتمتة (smart homes) من أنماط الاستهلاك وأسلوب الحياة في رمضان، وفقدت المنازل الحديثة بعض العناصر المعمارية التقليدية مثل الأفنية بسبب الاعتماد على تقنيات التهوية والتبريد الحديثة من خلال:
-التحكم بالإضاءة والمكيفات عبر الهواتف الذكية.
-المطابخ الذكية التي تقلل من هدر الطعام وتوفر الوقت والجهد.
-أنظمة الأمان الحديثة التي تنظم استقبال الضيوف خلال ليالي رمضان.
-انتشار استخدام التكنولوجيا كأداة للتواصل، وبديل عن التفاعل الاجتماعي المباشر.
الاستدامة في العمارة وتأثيرها على المواسم الرمضانية:
1- العمارة التقليدية كنموذج للاستدامة
قبل انتشار التقنيات الحديثة، كانت العمارة التقليدية تمتاز بخصائص استدامية طبيعية:
-الفناء الداخلي يسمح بالتهوية الطبيعية وتوفير بيئة لطيفة خلال الإفطار والسحور.
-المشربيات تقلل من دخول أشعة الشمس المباشرة، مما يقلل الحاجة للتكييف.
-المواد المحلية كالأحجار والطوب الطيني، التي توفر عزلاً حراريًا مثاليًا.
-العناصر المائية الملطفة لحر الصيف، والمزروعات والعناصر الخضراء الخاصة بكل بناء.
المدن الإسلامية التاريخية اعتمدت على الأسواق المسقوفة والممرات الضيقة فاستطاعت تحقيق التهوية الطبيعية وتخفيف الحرارة بنسبة تصل إلى 5 درجات مئوية مقارنة بالمناطق الأخرى.
وفي البيوت التقليدية ذات الفناء الداخلي تقل الحاجة إلى التكييف بنسبة 30-40% بسبب التهوية الطبيعية، وقد ظهر في الإمارات بعض المشاريع السكنية الحديثة أعادت تصميم المنازل على أساس العمارة الإسلامية التقليدية، مما ساعد في تخفيض استهلاك الكهرباء بنسبة 20% سنويًا.
أما تقنية "الجدران الطينية السميكة" المستخدمة في العمارة القديمة فإنها تحافظ على برودة المنازل بنسبة 70% أكثر من المباني الحديثة المصنوعة من الأسمنت فقط.
2- كيف يمكن للعمارة الحديثة تبني هذه المبادئ؟
مع ازدياد الطلب على تقنيات البناء المستدام، هناك محاولات حثيثة للمعماريين لدمج التقنيات الحديثة مع المبادئ التقليدية لتحقيق استدامة عمرانية تلائم الاحتياجات في المواسم:
-أجهزة استثمار الطاقة الشمسية لتزويد المساجد والمنازل بالطاقة، بمواجهة ازدياد نشاط الأفراد في هذا الشهر الفضيل.
-إعادة تدوير مياه الوضوء لاستخدامها في ري المساحات الخضراء المحيطة بالمساجد.
-استخدام مواد بناء منخفضة البصمة الكربونية.
في بعض المدن الحديثة، تم تصميم ساحات مفتوحة للمجتمع كانت السبب في تقليل استهلاك الطاقة في المناطق المحيطة بنسبة 15% بسبب تأثير التبريد الطبيعي.
3- استدامة الأسواق والمراكز التجارية
مع ازدياد النشاط التجاري في رمضان، تستهلك الأسواق والمولات كميات هائلة من الطاقة والموارد لذلك، كانت المحاولات دائمة لتحسين استدامتها عبر:
-دمج التصميم البيئي السلبي الذي يعتمد على التهوية الطبيعية، واستخدام مبادئ الاستدامة والعمارة الخضراء في تصميم الأسواق، والأماكن العامة.
-تصميم أسواق مؤقتة قابلة للتفكيك، تقام في المناسبات التي يرتبط بها نشاط اقتصادي متزايد عن باقي الأوقات، لتقليل الأثر البيئي.
-استخدام إضاءة LED وتقنيات ذكية للحد من الاستهلاك الكهربائي.
-استخدام تقنيات إعادة التدوير للتقليل من الهدر بمختلف أشكاله (المياه، الأطعمة، المخلفات الورقية، مخلفات التخزين،.......الخ) وتخصيص منشآت قريبة وأماكن للتخزين في الأسواق، خاصة بهذه التقنيات.
تشجيع المبادرات المجتمعية في التوعية باتجاه حفظ الموارد، والاهتمام بالتقنيات الحديثة التي تُكتشف باستمرار في هذه المجالات.
-دور التصاميم القابلة للتكيف (Adaptive Architecture) في إنشاء أسواق رمضانية مرنة ومستدامة.
كيف يرتبط استخدام الأفراد للفراغات في الشهر الكريم مع التخطيط العمراني، التصميم المعماري، واستخدامات المباني في المجتمعات الإسلامية:
المساجد كمراكز روحانية واجتماعية:
تتغير وظيفة المساجد خلال رمضان، حيث تصبح أكثر ازدحامًا أثناء صلاة التراويح والاعتكاف، ويصبح النشاط يشمل أوقاتاً أطول لا تقتصر على أوقات الصلوات الخمسة.
ورمضان من المواسم التي تحتاج تنظيماً أكبر لحركة المصلين، وتوفير مساحات إضافية أكبر مما هو متوفر في باقي ايام العام. مما يقتضي وجود عنصر المرونة في التصميم، بحيث يستطيع كل مسجد ان يقوم باستيعاب أعداد رواده من الجوار وغيرهم، كما يقتضي إمكانية توسيع الخدمات اللازمة لهذه الأعداد في تلك المواسم.
كما أن تنقل الشهر الكريم عبر الشتاء والصيف يجعل لكل فصل من الفصول متطلباته من التدفئة والتكييف والحاجة إلى المياه الساخنة في الشتاء ومياه الشرب الباردة في الصيف.
أما حركة الهواء في المكان فهي تختلف في أوقات تجمع العدد الأكبر منها في الأوقات العادية، فوجود الأنظمة الذكية التي تؤمن حركة الهواء المناسبة للعدد المستخدِم لفراغات المساجد تمنع هدر الطاقة وتؤمن بيئة صحية لرواد المكان.
واسوة بالأبنية المستدامة يمكن للمساجد توفير تجربة بيئية ناجحة من خلال استخدام مواد البناء المستدامة والتقليل من انبعاثات الكربون، وانشاء بنية متلائمة مع البيئة المحيطة وذات جدوى اقتصادية عالية.
تستهلك بعض المساجد الكبيرة ما يعادل 500 منزل من الطاقة الكهربائية يوميًا، مما يجعل الاستدامة فيها أمرًا ضروريًا.
مشروع "المسجد الأخضر" في دبي قلل استهلاك الكهرباء بنسبة 40% عبر استخدام الإضاءة الذكية والطاقة الشمسية.
كما تتجه التصاميم الحديثة بعض المساجد الحديثة إلى إعادة تدوير مياه الوضوء.
وبين الماضي والحاضر كانت المساجد مركزًا اجتماعيًا وروحيًا وتعليمياً يستوعب الاحتياجات المختلفة للمجتمع، وكانت محاطة بأسواق وخانات تخدم روادها، وتوزعت المساجد الصغيرة في كل حارة لتكون متاحة للأطفال وكبار السن بشكل يومي، بينما تتوضع المساجد الأكبر بحيث توفي باحتياج عدد من الحارات، ليستوعب العبادات الجماعية والمناسبات الدينية مثل التراويح والاعتكاف.
أما في الوقت الحاضر اختفت تقريباً المساجد الصغيرة بينما زاد عدد المساجد الأكبر فالأبنية المرتفعة التي تضم أعداداً أكبر من السكان أصبحت تحتاج مساحات كبيرة، بينما اقتصرت وظيفتها على العبادة وانفصلت عن النشاط الاجتماعي للحي كالأسواق والفنادق والخدمات المختلفة.
المدن القديمة والأسواق التراثية:
تتغير أسواق المدن القديمة، ويزداد الطلب على المنتجات الرمضانية الخاصة بهذا الموسم، وغالباً يقصدها الناس ليس للاغراض الاقتصادية فحسب، وإنما لأغراض معنوية وعاطفية تنبع من ارتباط السكان بمدنهم وموروثاتهم.
وقد أشارت بعض الاحصائيات إلى أن 80% من العائلات تفضل الأسواق التقليدية أو المتاجر المؤقتة خلال رمضان بدلًا من التسوق عبر الإنترنت.
وهنا تظهر ضرورة الاهتمام بهذه الأماكن والحفاظ عليها لبقائها ضمن دورها الاجتماعي والتاريخي والتراثي، وذلك بالتوازي مع تخديم زوار هذه الأماكن من داخل وخارج البلاد بشكل يليق بالقيمة التي تحملها هذه الأماكن.
يشمل هذا المحافظة على أصالة كل عناصر هذه الأمكنة، والصيانة الدورية الصحيحة، وتشجيع القاطنين على التمسك بها والحفاظ عليها، وتوعيتهم بأهميتها، ووضع الخطط لمواكبة التطور والاحتياجات المختلفة دون المساس بقيمتها التاريخية والمعمارية والعمرانية.
الأسواق الرمضانية القديمة كانت تصمم لتناسب ساعات النشاط النهاري والليلي، بشكل مستمر، بينما اليوم سيطرت العادات الاستهلاكية الحديثة على تصميم الأسواق والمولات في رمضان، وأصبحت موجهة للطبقة القادرة على تحمل أعباء هذه الحياة الاستهلاكية.
التخطيط العمراني ورمضان:
في هذا الشهر الكريم كما في أي مناسبة مميزة تستجيب المدن الإسلامية لهذا الشهر من حيث تهيئة الميادين والأسواق، وتأمين الفراغات التي تستوعب أنشطة الأفراد المختلفة، الفردية والجماعية، ولا يقتصر ذلك على فراغات التجمع فقط بل يشمل كافة الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والخيرية والمبادرات المختلفة.
وعند تصميم التجمعات العمرانية لابد من الأخذ بعين الاعتبار كافة هذه التفاصيل لما لها من تأثير كبير على حياة الناس وسير أمور معيشتهم في هذه التجمعات، والحفاظ على المظهر العمراني الحضاري للمدن، وينشأ عن ذلك مسؤولية كبيرة عل عاتق المعماريين والمخططين.
وهناك الكثير من الأفكار المجدية في هذا المجال، كالفراغات المتعددة الاستعمال، ودراسة حركة النقل العامة، تصميم بيئة شاملة تلبي احتياجات الأفراد بكل حالاتهم الصحية والاجتماعية بما فيهم أصحاب الاحتياجات الخاصة، والفراغات العامة المرنة......ألخ.
ومع توسع المدن وتغير أنماط الحياة والعمارة وتكنولوجيا البناء، بدأت تظهر عناصر واحتياجات جديدة للفرد في المدن كالخدمات والمؤسسات المختلفة والأسواق ذات الطابع الحديث والانتشار الشاقولي للتوسع المعماري ....الخ، وتضاءلت أخرى، كالمصلى العام خارج المدن، والنسيج العمراني ذو الانتشار الأفقي.......
وهذا يحتم على المصممين إيجاد الحلول المناسبة والمبتكرة لكل من هذه المستجدات.
الهندسة المعمارية للمطابخ والمجالس في البيوت التقليدية:
يغفل المصممون وحتى أصحاب المنازل عند تصميم المطابخ مسألة كيف ستتكيف المنازل مع استقبال الضيوف وإعداد الوجبات لعدد يفوق عدد أفراد الأسرة، وذلك بشكل يحافظ على توفر الراحة والخصوصية لقاطني البيوت، ولا نعني بذلك زيادة المساحات وتصميم فراغات للتجمع لاستيعاب أعداد إضافية من الأشخاص، وإنما نقصد التصميم المرن الذي يتيح ببعض التغييرات الطفيفة استيعاب الأنشطة الجماعية في كل بيت بحسب امكانياته، واختيار التصميم الداخلي الذي يجعل الفراغ قابلاً للتكيف مع الأغراض المتعددة، ويمكن استخدامه باشكال مختلفة.
في العمارة التقليدية توفرت غالبا المجالس الكبيرة والفناء الداخلي لاستقبال الضيوف، أما في البيوت الثرية كان هناك قسم خاص منفصل بصرياً عن باقي أقسام البيت لاستقبال ضيوف العائلة يحوي على باحة مكشوفة خاصة بهذا القسم وصالة استقبال كبيرة أو أكثر وأحيانا أقسام للمبيت خاصة بالضيوف ولهذا القسم من المنزل مطابخ منفصلة لاستيعاب تحضيرات الإفطار والسحور والضيافة المختلفة، ويسمى هذا القسم في أغلب المناطق العربية بالسلاملك، وقد تقام فيه برمضان موائد لإطعام فقراء الحي كنوع من أعمال البر والإحسان.
وفي الأحياء القديمة كانت الأجواء مجتمعية، حيث الأبواب مفتوحة والجيران يشاركون بعضهم طعام الإفطار.
ولا ننسى دور الفناء الداخلي في المنازل الإسلامية التقليدية في توفير بيئة مثالية للسهرات والتجمعات العائلية وخاصة في مواسم كشهر رمضان، والتي بدأ الاتجاه اليوم مقابل ذلك إلى الفراغات الاجتماعية المشتركة في كل بناء سكني استفادةً من نفس الفكرة، وبما يتيح المجال لتفاعل اجتماعي متعدد الاشكال، كالحدائق على الأسطح وصالات الأنشطة والحدائق المركزية والكثير من الخدمات المشتركة، ورغم وجود نواح ايجابية وأخرى سلبية لمثل هذه الحلول، إلا أنها جديرة بالتأمل والتطوير.
في العمارة الحديثة معظم البيوت أصبحت مغلقة وأصغر مساحة، هذه العناصر لم تعد حاضرة فيها، لقد تغيرت أقسام البيوت لتتناسب مع نمط الحياة السريع، إلا بيوت المقتدرين، إذ يخصص غالباً في بيوتهم غرف خاصة لاستقبال الضيوف، بينما يستخدمون الأماكن العامة لتنظيم النشاطات التشاركية ذات التجمعات الكبيرة كالمطاعم والفنادق .... أما الأحياء الحديثة المغلقة فتندر فيها التفاعلات الرمضانية.
والسؤال كيف يمكن إعادة تصميم المدن بطريقة تعيد تعزيز الروابط الاجتماعية؟
عناصر الجذب البصري:
الرمزية الثقافية لزخارف رمضان مثل استخدام الفوانيس والزخارف الهندسية في الشوارع والمباني خلال رمضان، أماكن عرض البضائع، والإضاءة الليلية في المساجد والأسواق والأماكن العامة، يمكن أخذها بعين الاعتبار عند دراسة الواجهات بشكل ينسجم مع التصميم، وتأمين التغذية الكهربائية الآمنة والاقتصادية.
عامل الأمان الاجتماعي بين الماضي والحاضر:
شكلت الأسواق القديمة مساحات آمنة للتفاعل الاجتماعي فقد كانت تتميز بتصميم يوفر الأمان، مثل الأزقة الضيقة التي تسهّل الرقابة الاجتماعية، والإنارة الطبيعية، والتنظيم حول المساجد والخانات لضمان حركة نشطة ومستدامة، وهذه الحركة تشمل كافة طبقات المجتمع بشكل طبيعي حيث يجد كل فرد مهما كانت طبقته الاجتماعية أو المادية احتياجاته، دون أن يشعر بأي تمايز بينه وبين الأفراد الآخرين، وهنا تنشأ علاقات اجتماعية توفر عامل الأمان النفسي سواء لأصحاب المتاجر أورواد الأسواق.
تشير الدراسات إلى أن وجود الأسواق المفتوحة والمجالس الاجتماعية يقلل نسبة الجرائم البسيطة بنسبة 25% خلال المواسم بسبب زيادة التفاعل الاجتماعي.
هنا نجد الفرق الشاسع بين هذه الأسواق وأسواق العصر الحديث الذي تحولت فيه الأسواق إلى مولات كبيرة، فُقد فيها هذا التفاعل المميز، ونشأت علاقات تجارية مختلفة لها ايجابياتها وسلبياتها.
نذكر أيضاً صورة المساجد الذهنية كمراكز للطمأنينة والأمان الاجتماعي فقديماً كانت المساجد أكثر من مجرد أماكن للصلاة، بل كانت ملاجئ للمحتاجين، ومدارس للفقراء، بالإضافة إلى وجود قاعات المطالعة، وغيرها من الاستخدامات المتعددة، وهذا عزز الإحساس بالأمان والانتماء.
ورغم استمرار دور المساجد، إلا أن بعض التصاميم الحديثة لم تراعي هذه الاحتياجات (مثال ذلك: المساحات المحدودة والفصل الكامل بين المساحات وعدم وجود ساحات واسعة).
أما الفراغات العامة في المدن القديمة مثل الأسواق والخانات والساحات والمعاهد العلمية التي تحيط بالمساجد ساهمت في خلق مجتمعات مترابطة وآمنة، حيث يكون الجميع تحت أنظار بعضهم البعض.
واليوم اختفاء بعض هذه الفراغات المفتوحة أدى إلى تراجع التفاعل الاجتماعي وزيادة الإحساس بالعزلة، وعزز الخصوصية والفصل بين الأفراد، فهل العمارة الحديثة تعزز الأمان الاجتماعي أم تقلل منه؟ وهل يمكن للمدن الحديثة إعادة دمج هذه العناصر لتوفير أمان اجتماعي مماثل لما كان موجودًا في الماضي؟
البعد الاقتصادي وتأثير العمارة على النشاط الاقتصادي في رمضان:
قديماً الفراغات العامة التقليدية كانت مصممة بشكل مرن لاستيعاب النشاط المتزايد في رمضان وغيره من المناسبات، مع توفير مساحات للباعة المتجولين، مما عزز اقتصاد المدينة، وإلى اليوم تساهم المدن القديمة في هذه المواسم بدور اقتصادي فعال. ولقد كان وجود المساجد في قلب الأسواق القديمة يعطيها دوراً اقتصادياً كنقاط جذب، حيث يزداد النشاط التجاري حولها خاصة قبل وبعد الصلوات.
اليوم غالباً لا يتغير المشهد العام للأسواق والمولات الحديثة خلال السنة رغم اختلاف درجة الطلب خلال الشهر الكريم؟ ولا تتفاعل مع الفراغات والفعاليات المجاورة بشكل حيوي، لقد أثرت التصاميم المغلقة للمولات على روح السوق المفتوح الذي كان يعزز التفاعل الاقتصادي. أما أماكن الصلاة فهي موجودة في الأسواق كمكان خدمي يتمكن فيه الفرد من أداء الصلاة في حال الحاجة. أما المساجد الأساسية فإن نمط التخطيط العمراني الحديث فصلها عن الدورة الاقتصادية للمدينة.
الساحات والأسواق المفتوحة في المدن القديمة كانت تستوعب التجار والمطاعم المؤقتة، تتيح لهم فرصًا اقتصادية موسمية، واليوم، في المدن الحديثة، هل هناك مساحات كافية لدعم الأنشطة الرمضانية مثل الإفطار الجماعي، الأسواق الليلية، ومهرجانات التسوق؟
في بعض الدول العربية، يزداد الإنفاق على التسوق بنسبة 30-50% خلال شهر رمضان، مما يجعل الأسواق الرمضانية عنصرًا حيويًا في الاقتصاد، وفي عام 2023، قدرت قيمة الإنفاق على الطعام والشراب في الخليج خلال رمضان بـ 6 مليارات دولار.
والجدير بالذكر هنا أن كثيراً من التجارب العصرية حاولت إيجاد توازن بين الأسواق المستدامة في رمضان التي تربط بين التقاليد والأسواق الرمضانية القديمة، وبين التحديات التي تواجهها الأسواق الحديثة في تحقيق الاستدامة، خاصة مع الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا والخدمات الرقمية.
سنذكر عدة حالات على عجالة:




الأسواق التقليدية كمصدر إلهام للاستدامة
سوق واقف – الدوحة، قطر
يتميز هذا السوق التقليدي باستخدام مواد بناء محلية مثل الطين والحجر، مما يساعد في الحفاظ على درجة حرارة معتدلة، ويعتمد على الممرات الضيقة والمظللة، والتي تقلل التعرض المباشر للشمس وتوفر بيئة أكثر راحة للمتسوقين.
التصميم يسمح بتدفق الهواء الطبيعي، مما يقلل الحاجة إلى التكييف الصناعي، وتم توظيف الإضاءة الطبيعية من خلال الفتحات العلوية في النهار، مما يحد من استهلاك الكهرباء.


الأسواق الحديثة التي تطبق مبادئ الاستدامة
سوق مدينة مصدر (Masdar City Market) – أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة
سوق مدينة مصدر يعتمد على الطاقة الشمسية كمصدر رئيسي للطاقة. والمباني بشكل عام في المدينة مصممة للاستفادة من التهوية الطبيعية باستخدام الأنظمة الهوائية التقليدية، ويستخدم السوق مواد بناء محلية مثل الطوب الطيني الذي يساعد على العزل الحراري وتوظيف التصميم البيئي السلبي بحيث تتراكم الحرارة الزائدة في مواد البناء ليستفاد منها ليلاً، مما يحافظ على درجة حرارة ثابتة داخل السوق.
المدينة كلها معتمدة على المواصلات المستدامة، بما في ذلك سيارات كهربائية ومركبات ذات انبعاثات صفرية.
سوق بوليفارد الرياض
يستخدم تقنيات إنارة موفرة للطاقة LED بتصميم يتكيف مع أوقات الذروة في رمضان، فالسوق مصمم ليكون مرنًا، بحيث يتحول خلال شهر رمضان إلى وجهة اجتماعية وترفيهية تلبي احتياجات الزوار.
وتم دمج تقنيات التظليل الذكي لحماية المتسوقين من أشعة الشمس الحارقة.
Share the post
Subscribe to our newsletters


سوق خان الخليلي – القاهرة، مصر
مبني على منطقة ذات ارتفاعات متفاوتة، مما يجعل بعض الأزقة أعلى قليلًا أو أدنى من بعضها الآخر هذا التدرج يخلق فرقًا في ضغط الهواء، مما يدفع الهواء إلى التحرك بين الأزقة، وبالتالي يحسن التهوية الطبيعية، بينما الشوارع ضيقة متعرجة تساعد في زيادة سرعة الرياح بين المباني.
المواد الحجرية تقلل امتصاص الحرارة مقارنة بالمباني الزجاجية الحديثة، والسوق يجمع بين المساحات التجارية المفتوحة والمغلقة، مما يخلق بيئة مرنة للاستخدام في المواسم وغيرها.


أسواق مؤقتة ومستدامة في رمضان
سوق رمضان في جاكرتا، إندونيسيا:
أسواق موسمية مؤقتة تظهر فقط في رمضان، يتم إنشاؤها من مواد قابلة لإعادة التدوير، تعتمد على الأكشاك الخشبية والخيام الصديقة للبيئة بدلاً من الهياكل الإسمنتية الدائمة.
توفر تجربة رمضانية غنية دون ترك بصمة كربونية كبيرة.
أسواق الطعام الرمضانية في ماليزيا:
تستخدم أكشاكًا مؤقتة مصنوعة من الخيزران والخشب المعاد تدويره، وتعتمد على المصادر المحلية للإنارة والتبريد، مما يقلل من استهلاك الطاقة.
وتنظم الحكومة مشاريع لإعادة تدوير نفايات الطعام المتبقية كل يوم.
وهناك الكثير من الأفكار التي يمكن تطبيقها في تصميم الأسواق الرمضانية المستدامة مثل: دمج المساحات المفتوحة بدلًا من الأسواق المغلقة لتحسين التهوية الطبيعية، واستخدام مواد بناء محلية ومستدامة تقلل من الحاجة للتكييف والطاقة، اعتماد أنظمة الإضاءة الطبيعية عبر النوافذ العلوية والأسقف الزجاجية، إعادة تدوير النفايات من الطعام والمنتجات الاستهلاكية خلال رمضان، إنشاء أسواق رمضانية مؤقتة من مواد قابلة لإعادة الاستخدام كل عام، واستخدام الطاقة الشمسية لإنارة الأسواق وخفض استهلاك الكهرباء.








خاتمة:
يمثل أداء العمارة في رمضان نقطة التقاء بين الهندسة المعمارية والوظائف الدينية الاجتماعية، الروحانية، والاقتصادية، ويشكل هذا الالتقاء مجالًا غنيًا للتحليل والتطوير، ومع دخول التكنولوجيا إلى مختلف جوانب الحياة، يظهر تحدٍ جديد كيف نحافظ على أصالتنا في ظل التحولات الرقمية؟
من ناحية أخرى، فإن تحقيق الاستدامة اليوم ليس مجرد خيار، بل ضرورة لمواجهة تحديات تغير المناخ والاستهلاك المتزايد للطاقة والموارد، ولعل الحل الأمثل يكمن في إعادة إحياء المبادئ العمرانية التقليدية، لكن بلمسة حديثة تعتمد على الابتكار والتقنيات الذكية.
أما فيما يتعلق بالشهر الكريم يمكننا التساؤل فيما إذا كان تراثنا الرمضاني سيبقى جزءًا رئيسيًا من التجربة الاجتماعية، أم أن التجارة الإلكترونية ستغير طبيعتها؟ وكيف سيكون دور العمارة مستقبلاً في هذا المضمار؟ شاركنا رؤيتك

